كلمة الأب بورفيريوس جرجي عميد معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في جامعة البلمند
في افتتاح العام الدراسي 2015 – 2016
البلمند في 31 آب 2015
صاحب السيادة،
إخوتي الآباء الأجلاّء،
زملائي الأساتذة الموقرين،
أحبائي الطلبة،
أنقل إليكم، في بداية هذا العام، أدعية صاحب الغبطة أبينا البطريرك يوحنا العاشر الكلي الطوبى ومحبّتَه وبركته مع حرصه على سلامة معهدنا وشوقه الدائم إلى زيارة المعهد ولقيا المقيمين فيه.
رغم الحروب وأخبار الحروب في بلادنا وشرقنا، تتوجه أنظار الكنيسة الأنطاكية المجيدة في بدء هذه السنة الدراسية إلى جبل البلمند المقدس حيث يُفتتح موسم جديد من الرجاء والعمل والعطاء والفرح تحت كنف دير السيدة والدة الإله التي تسهر على هذه الكورة وتبارك زيتونها وغلال أرضها وجهود الفعلة الساهرين فيها.
ما يشغلنا يا إخوتي في معهدنا اللاهوتي ليس كلامًا يذاع هنا وثمة عن مسيحيي المشرق ووجودهم. نحن نؤمن كما يشدّد بطريركنا وأبونا بأن مسيحيي المشرق باقون، لن يقتلعهم شيء من أرضٍ سقتها دماء الشهداء وجهادات القديسين، ومنها انطلقت بشرى القيامة إلى الأمم وخرج الإنجيل إلى أقاصي المسكونة.
ما يشغلنا ههنا إنما هو نوعية الوجود والشهادة التي نؤديها نحن مسيحيي المشرق في عالمنا اليوم.
سهرنا في البلمند هو على صقل شخصيات كنسية تشهد للنور في عالم تكتنفه ظلمات التطرف والعنف والتفلت والابتعاد عن الله. شخصيات مقدامة تدرك رسالتها ولا تتردد في التضحية والتعب من أجل خير الآخر وسيادة لغة الوداعة والتأني والمحبة.
معهد اللاهوت في البلمند مكان لتفتُّح الدعوة، دعوة الإنجيل لنا لنترك كل شيء ونتبع المخلص ونكون له تلاميذ وخدامًا لعهده الجديد. المعهد مشغل يصقل الدعوات ويقدم للكنيسة رجالاً خدّامًا متدربين متأهبين لبذل الذات والعطاء الكبيرين.
والمعهد مدرسة للصلاة. يتعلم فيه الطالب كيف أننا نحيا "بكل كلمة تخرج من فم الله"، وأن كل عزم حسن أو إرادة طيبة تتثبت بالإلتجاء المستديم إلى وجه الرب وإلى مشيئته، ليكون السيد قبطان السفينة ومبارك الحصاد.
المعهد بيت للدراسة، مركزٌ لتحصيل العلم وفقًا للمعايير الجامعية السامية التي تليق ببلادنا وبكنيستنا والتي يرافقها نمو إنسان القلب والخلق والفكر بالتوازي مع النظرة النقديّة الثاقبة إلى حقائق الأمور وأبعادها.
معهدنا مكان للبحث العلمي يسعى العاملون فيه إلى تأمين الخبرات اللازمة لتمكين الطالب من الولوج في مخاض البحث العلمي والتساؤل والتدقيق والنقد البنّاء ومواجهة تشكيك المشكّكين بدراية ومهارة ومنهجيّة.
هو مكان تفتُّح المواهب، حيث يكتشف الطالب طاقاتٍ كامنةً في كيانه فيوجّهها ويغذّيها ويصقلها وينمّيها لكي تثمر بالصبر "ثلاثين وستين ومائة".
المعهد مكان للخدمة والتدريب. يتعلم فيه الطالب أن اللاهوت المشرقي الأصيل إنما هو سامري شفوق ينحني نحو الإنسان الآخر ويحرص على بلسمة جراحه وتأمين حاجاته وتعزية نفسه. وذلك يتحقق بالتدرّب على الجانبين الرعائي العملي والعبادي التطبيقي للمعرفة اللاهوتيّة.
المعهد بيت للكنيسة وموضع للضيافة، خيمة فسيحة تسع كل أبناء الكنيسة، تستقبلهم بفرح وتكسر لهم الزاد إذ ترى في وفودهم صدىً لوقع خطى السيد السائر مع التلميذين إلى عمواس.
معهد القديس يوحنا الدمشقي مكانٌ للعيش والخبرة، عيش الإنجيل وخبرة تلقف وصايا السيد وتطبيقها. وذلك في الاحتكاك اليومي مع الإخوة في الكنيسة وغرفة الطعام وقاعة الصف وأدوار الخدمة والأنشطة الغنية.
يفتح معهد اللاهوت في البلمند أبوابه لمن يقصده على حياة الشركة التي تضم الطلاب والأساتذة والرعاة وكل عابر سبيل يعطش إلى كلمة الله وملكوت الله وبرّه. ويسعى لأن يشهد في عالم اليوم عبر تعليم لاهوتي يتوجه إلى الإنسان ويغني حياته.
الإنسان في عالمنا اليوم يربكه الدين عوض أن يخدمه. صورة الإله القاضي الحامل الميزان في يمناه ليحاسب بصرامة كلاًّ عما فعل باتت منفّرة تكسر ظهر الإنسان. هذه الصورة الحقوقية لله والتي كرّستها اتجاهات متطرفة في لاهوت القرون الوسطى، جعلت الناس يجحدون الإله. ما لا شك فيه أن "اللاهوت المسيحي" في بعض اتجاهاته أو مدارسه قد أذنب فخسر كلّ إمكانية في محاورة الناس، بل جعل الإنسان المعاصر يفقد غاية وجوده. يفقد الرؤيا السليمة التي كان علم اللاهوت وحده قادرًا على تزويده بها. فحين ينزاح اللاهوت عن مساره الأصيل، يميل البشر إلى إرواء عطشهم إمّا من روحانيات غريبة، وإما بالإقبال الأعمى على اللذة وأسبابها، أو بأشكال مستغربة من التديّن والعبادة والتطرف، أو بنوع من اللامبالاة وعدم الحسّ.
"اللاهوت المسيحي" يذنب حين يفقد أصالته. يفقد رسالته الرعائية وإمكانية شفاء الإنسان وبلسمة جراحه. لا تعود الكنيسة حينئذٍ مستشفى يعالج جراح الإنسان ويرفعه من وهدة سقطاتهه. يبيت التكلم بالإلهيات تردادًا لصيغٍ فكرية عقيمة لا تسلّي سوى المتحذلقين. لا يعود العلم الإلهي منهاجًا لشفاء الإنسان "لتكون له حياة (بالاستنارة)، وليكون له أفضل (بالتمجيد)" (يوحنا 10:10).
رسالتنا في معهدنا أن نقول للعالم اليوم بأن الكنيسة هي بيت التمجيد. تمجيد الله بالعبادة وتمجيد الإنسان بالنعمة الإلهية. الكنيسة موضع استعلان المجد الإلهي وسلام الله على الأرض. هذه رسالتنا في شرقنا المسيحي وفي العالم بأسره وهذه دعوتنا.
لقد أتينا إلى جبل البلمند المقدس لكي نتكرس لخدمة الكنيسة ودراسة تقليدها والتمعّن بحروف الإنجيل. رجاؤنا أن يوفق الله مسعانا ببركة صاحب الغبطة السيد البطريرك يوحنا العاشر وإرشاده، وببركة السادة الأجلاء المطارنة آباء المجمع الأنطاكي المقدّس وتشجيعهم.
أريد منكم أن تتذكّروا يا إخوتي، ما قلناه العام الفائت، أنّنا ههنا، في البلمند، في مكان مقدّس، مقدّس بكل ما في الكلمة من معنى، وأن دعوتنا وخدمتنا ههنا مقدّستان بنعمة الله وبعونه الكريم. لأن الكنيسة عقدت علينا آمالاً كبرى لنضحى بالدراسة والعمل الدؤوب والالتجاء المستمرّ إلى الرب نورًا للعالم وملحًا للأرض.
ألا بارك الله سنتنا الدراسية الجديدة، وجدّد فينا العزم والعهد والمحبة، وسدد خطانا في كل عمل صالح بصلوات آبائنا القديسين.
كل عام وأنتم بخير.