أصحاب السيادة،
الآباء الأجلاء،
الأستاذات والأساتذة الموقرون،
إخوتي الموظفون،
أحبائي الطلبة،
أفتتح عامنا الدراسي الجديد بأن أنقل إليكم بركة صاحب الغبطة السيد البطريرك يوحنا العاشر أبينا وراعينا ومحبتَه وتشجيعَه لكل واحد منّا.
أما بعد، يقوم وعي الكنيسة الأرثوذكسية لهويتها على اتباعنا الآباء القديسين، وعلى تسليمهم لنا سر الإيمان وتقليد التكلم باللاهوت. فإن الكنيسة تؤكد في مجامعها أن تعليم الإيمان المستقيم، هو لاهوت الآباء وخبرتهم في معرفة الحقائق الإلهية وعيشها والشهادة بالقول والفعل لقوة قيامة المخلص في حياتنا. لذا، تولي كنيستنا أهمية كبرى لتعليم الآباء وللاهوتهم. ولكن أساس هذا يبقى الفهم الصحيح لعلاقتنا بتعليم آبائنا القديسين.
يختلف التعليم الآبائي الحي عن المعرفة الفكرية العقلية المحضة لتاريخ الآباء ونصوصهم ومصطلحهم وسيرة حياتهم. فإنه يسهل على كل شخص أن يكون أخصائيًّا في هذه الأمور بالمعنى العلمي والجامعي حتى ولو كان غير مؤمن. أما الفهم الآبائي لسر الإيمان فهو أمر مختلف. إنه عيش خبرة حلول الروح القدس في ملئها، كما عاشها رسل المسيح الأطهار يوم العنصرة، وكما خبرها قديسو الكنيسة عبر العصور. فإن آباء الكنيسة يحملون لنا خبرة الكنيسة الأصيلة في معرفة الثالوث المحيي والتنقي بنعمته والاستنارة بروحه القدوس.
شهادتهم هي شهادةٌ لكل العصور وتعليمهم أساس لخلاص الإنسان وتقديس حياته. نسميهم آباء لأنهم يلدوننا بالإيمان الحقيقي، ويدعوننا كأبناء لله للاقتداء بمثلهم، حتى ننمو "بالحكمة والنعمة" ونثمّر مواهب الروح القدس المعطاة لنا بالمعمودية وسر الميرون. وما هذه العطية إلا إمكانية القبول الحرّ للحقيقة بملئها، حقيقة الإعلان الإلهي المعطى لنا في حلول الروح القدس على القرابين في كل قداس إلهي. والقبول هو تعبير عن حرّية أبناء الله (1 يوحنا 5: 6 ويوحنا 8: 32)، قبول نعمة الروح القدس الذي يقودنا "إلى كل الحقيقة" والتي هي المسيح (يوحنا 14: 6).
لهذا يركز تعليم الآباء على ارتباط اللاهوت والعقيدة بحياتنا في المسيح. الإيمان المستقيم هو الطريق الذي يقود إلى ملكوت المسيح، عبر عيشه والامتلاء من النعمة. هذا الامتلاء من روح الرب هو خبرة القداسة، التي هي دعوة الإنسان، كل إنسان، وغاية حياته، كونه مخلوق "على صورة الله ومثاله"، وكونه معمدًا وممسوحًا بالميرون "ختم موهبة الروح القدس". كل مسيحي مدعو للالتصاق بالمسيح وللاتحاد به.
وهذا ما نعيشه في الكنيسة. أساس تعلّقنا بالكنيسة أن المسيح ظهر وما زال يُظهر ذاته، باستمرار، في الكنيسة جسده الحي. الإنجيل في الكنيسة، وبالأخص في القداس الإلهي يصير كتابًا حيًّا يعلن حضور المسيح في حياتنا. والمسيح يفتح لنا باب الشركة مع أبيه وروحه القدوس. هذه الشركة التي تربطنا برسل المسيح وآبائنا القديسين الشاهدين لظهور الإله في الجسد، ليس من ألفي عام فحسب، بل اليوم وفي كل عصر وزمان. المسيح يظهر في الكنيسة، وكل كلمة في الإنجيل والليتورجية وتعليم الآباء تصير مرآةً لحضوره الشافي والمنير.
طبعًا لا يعني هذا الكلام أن آباء الكنيسة يرفضون المقاربة العلمية للاهوت، بل هم يباركون ويستفيدون من منهجيات البحث والتحقيق. بل كانوا معلمين علماء ينقلون التقليد الشريف وخبرة عيش الكنيسة وتفسيرها للإعلان الإلهي. لذلك تُصوّر أيقونات الكنيسة الآباء القديسين حاملين الإنجيل، ومعانقين له، ومقدّمين إياه تمامًا كأيقونة العذراء الهادية التي تقدم لنا المسيح "الطريق والحق والحياة" (يوحنا 14: 6).
المعرفة الفكرية في المسيحية هي وسيلة تخدم غايةً، هي أداة في خدمة الكرازة. أما الغايةُ فهي نقلُ البشرى بالحقيقة التي تفوق كل معرفة وعقل. الهدف الوحيد للاهوت الكنيسة هو خلاص الإنسان. والخلاص لدى آباء الكنيسة هو "تأله الإنسان" أي خبرة اتحاده مع الله. هذه الغاية الأسمى للتعليم تجعل من لاهوت الكنيسة رسالة قادرة أن تبدل الإنسان والتاريخ.
آباء الكنيسة كانوا شهودًا لهذه الحقيقة، حقيقة إيمان الكنيسة. والحقيقة ما هي فكرة أو نظرية، بل هي شخص المسيح الإله الإنسان، الذي ظهر بيننا ليرفعنا إلى حضن الآب السماوي.
خلاصة الأمر أن اللاهوت والحياة الروحية في الكنيسة الأرثوذكسية هما تعبيران اثنان عن حقيقة واحدة: ظهور الثالوث القدوس في حياة الإنسان واتحاده به بنعمة الروح القدس.
هذه الحقيقة والخبرة تحميها العقيدة المستقيمة الرأي، التي صانها آباؤنا بتعليمهم وجهاداتهم المستمرة وأمانتهم لغاية واحدة: محبة المسيح النقية والاتحاد به.
إتحاد الإنسان بالله يعني أن نأخذ على محمل الجد دور الروح القدس في حياتنا. فإن حضور المسيح مع الروح القدس في عمل الخلاص لا ينفصل أو ينقسم. الإنسان المسيحي، مدعو لتخطي عزلة فرديته عبر النمو والولوج إلى أسرار الكنيسة وحياة الشركة. هو قادر بمعونة الروح القدس الذي يسكن في قلبه، أن ينغرس في جسد المسيح، فيضحى "حجرًا حيّا" في بيت الله (1 بطرس 2: 5). يدخل في شركة مع "سحابة الشهود" (عبرانيين 12: 1)، في كل العصور، ويصير هو نفسه كنيسة المسيح وهيكل مجده.
نعم يا إخوتي. منذ تأسيسه إلى اليوم يسعى معهدنا اللاهوتي في البلمند، بكل ما أوتي من طاقات وإمكانيات أن يخدم هذه الحقيقة في الكنيسة. يسعى إلى مساعدة خدام الكنيسة المكرسين والمعلمين فيها بأمانة في التسلم والتسليم وبروح انفتاح بحسب الإنجيل ترحّب بالحوار مع الإنسان ومع الآخر، وتفتح أمام الطلاب دروب العلم والإبداع. نحن نؤمن أن تقليد الكنيسة الآبائي هو دعوة إلى حيوية إبداعٍ تكسر الحواجز بين الناس فيخاطب علمُ اللاهوت عقلَ الإنسان وفكره في كل عصر وظرف. اللاهوت لقاء مع الإنسان أراده الله وحققه بتجسد ابنه. ولا معنى للاهوتٍ لا يتجسّد اليوم، وفي كل عصر، في واقع الإنسان وفي مسيرته التاريخية.
هكذا نجدّد في بدء هذه السنة العزم على المضي قدمًا في الخدمة والعمل والتقصّي لمقاصد الله ولمشيئته المحيية. له المجد في كل شيء.
ألا جعل الله سنتنا الأكاديمية الجديدة مثمرة بنعمته. كل عام وأنتم بخير.
